الصفحة .. 26 ..
المهم أنني انصرفت بكل طاقاتي لتلك الحياة الجديدة .
وسرعان ما اكتشفت في عقلي مقدرة عجيبة على الحفظ والاستيعاب والفهم . أقرأ الكتاب فيرسخ جملة في ذهني . ما ألبث أن أركز عقلي في مشكلة الحساب حتى تتفتح لي مغالقها ، تذوب بين يدي كأنها قطعة ملح وضعتها في الماء . تعلمت الكتابة في أسبوعين ، وانطلقت بعد ذلك لا ألوي على شيء . عقلي كأنه مدية حادة ، تقطع في برود وفعالية . لم أُبال بدهشة المعلمين وإعجاب رفقائي أو حسدهم . كان المعلمون ينظرون إليَّ كأنني معجزة ، وبدأ التلاميذ يطلبون ودي . لكنني كنت مشغولاً بهذه الآلة العجيبة التي أتيحت لي . وكنت بارداً كحقل جليد ، لا يوجد في العالم شيء يهزني . طويت المرحلة الأولى في عامين ، وفي المدرسة الوسطى اكتشفت ألغازاً أخرى ، منها اللغة الإنكليزية فمضى عقلي يعض ويقطع كأسنان محراث . الكلمات والجميل تتراءى لي كأنها معادلات رياضية ، والجبر والهندسة كأنها أبيات شعر . العالم الواسع أراه في دروس الجغرافيا ، كأنه رقعة شطرنج . كانت المرحلة الوسطى أقصى غاية يصل إليها المرء في التعليم تلك الأيام . وبعد ثلاثة أعوام ، قال لي ناظر المدرسة ، وكان إنكليزياً : (( هذه البلد لا تتسع لذهنك ، فسافر . إذهب إلى مصر أو لبنان أو إنكلترا . ليس عندنا شيء نعطيك إياه بعد الآن )) . قلت له على الفور : (( أريد أن أذهب إلى القاهرة )) . فهل لي ، فيما بعد ، السفر ، والدخول مجاناً
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
#####@@@@@#####
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصفحة .. 27 ..
في مدرسة ثانوية في القاهرة ، ومنحة دراسية من الحكومة . وهذه حقيقة في حياتي ، كيف قيضت الصدف لي قوماً ساعدوني وأخذوا بيدي في كل مرحلة ، قوماً لم أكن أحس تجاههم بأي إحساس بالجميل . كنت أتقبل مساعداتهم ، كأنها واجب يقومون به نحوي .
حين أخبرني ناظر المدرسة بأن كل شيء أُعد لسفري للقاهرة ، ذهبت إلى أمي وحدثتها . نظرت إلي مرة أخرى ، تلك النظرة الغريبة افترت شفتاها لحظة كأنها تريد أن تبتسم ثم أطبقتهما ، وعاد كعهده ، قناعاً كثيفاً ، بل مجموعة أقنعة ، ثم غابت قليلاً ، وجاءت بصرة وضعتها في يدي ، وقالت لي : (( لو أن أباك عاش ، لما اختار لك غير ما اخترته لنفسك . افعل ما تشاء . سافر . أو ابقَ ، أنت وشأنك . إنها حياتك ، وأنت حر فيها . في هذه الصرة ما تستعين به )) .
كان ذلك وداعنا . لا دموع ولا قبل ولا ضوضاء . مخلوقان سارا شطراً من الطريق معاً ، ثم سلك كل منهما سبيله . وكان ذلك في الواقع آخر ما قالته لي ، فإنني لم أرها بعد ذلك . بعد سنوات طويلة ، وتجارب عدة ، تذكرت تلك اللحظة ، وبكيت . أما الآن ، فإنني لم أشعر بشيء على الإطلاق . جمعت متاعي في حقيبة صغيرة ، وركبت القطار . لم يلوِّح لي أحد بيده ولم تنهمر دموعي لفراق أحد .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
#####@@@@@#####
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصفحة .. 28 ..
وضرب القطار في الصحراء ، ففكرت قليلاً في البلد الذي خلفته ورائي ، فكان مثل جبل ضربت خيمتي عنده ، وفي الصباح قلعت الأوتاد وأسرجت بعيري ، وواصلت رحلتي . وفكرت في القاهرة ونحن في وادي حلفا ، فتخيلها عقلي جبلاً آخر ، أكبر حجماً ، سأبيت عنده ليلة أو ليلتين ، ثم أواصل الرحلة إلى غاية أخرى . أذكر أنني جلست في القطار قبالة رجل في مسوح وعلى رقبته صليب كبير أصفر . ابتسم الرجل في وجهي وتحدث معي باللغة الإنكليزية ، فأجبته . أكثر تماماً أن الدهشة بدت على وجهه واتسعت حدقتا عينيه أول ما سمع صوتي . دقق النظر إلى وجهي وقال لي : (( كم سنك؟ )) فقلت له خمسة عشر . كنت في الواقع في الثانية عشر ، لكنني خفت أن يستخف بي . فقال الرجل : (( إلى أين تقصد ؟ )) فقلت له : (( إنني ذاهب للإلتحاق بمدرسة ثانوية في القاهرة )) . فقال : (( وحدك ؟ )) . قلت نعم . نظر إلي مرة أخرى نظرة طويلة فاحصة ، فقلت له قبل أن يتكلم : (( إنني أحب السفر وحدي . مم أخاف ؟ )) . حينئذ قال لي جملة لم أحفل بها كثيرة وقتذاك . وأضاءت وجهه ابتسامة كبيرة وأردف : (( إنك تتحدث اللغة الإنكليزية بطلاقة مذهلة )) . وصلت القاهرة ، فوجدت مستر روبنسن وزوجته في انتظاري ، فقد أخبرهما مستر ستكول بقدومي . صافحني ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
#####@@@@@#####
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصفحة .. 29 ..
الرجل وقال لي : (( كيف أنت يا مستر سعيد ؟ )) فقلت له : (( أنا بخير يا مستر روبنسن )) . ثم قدمني إلى زوجته . وفجأة أحسست بذراعي المرأة تطوقانني ، وبشفتيها على خدي . في تلك اللحظة ، وأنا واقف على رصيف المحطة ، وسط دوامة من الأصوات والأحاسيس ، وزندا المرأة ملتفان حول عنقي ، وفمها على خدي ، ورائحة جسمها ، رائحة أوروبية غريبة ، تدغدغ أنفي ، وصدرها يلامس صدري ، شعر وأنا الصبي ابن الإثني عشر عاماً بشهوة جنسية مبهمة لم أعرفها من قبل في حياتي ، وأحسست كأن القاهرة ، ذلك الجبل الكبير الذي حملني إليه بعيري ، امرأة أوروبية ، مثل مسز روبنسن تماماً ، تطوقني ذراعاها ، يملأ عطرها ورائحة جسدها أنفي . كان لو عينيها كلون القاهرة في ذهني ، رمادياً ،أخضر ، يتحول بالليل إلى وميض كوميض اليراعة .
كانت مسز روبنسن تقول لي : (( وأنت يا مستر سعيد إنسان خال تماماً من المرح )) . صحيح أنني لم أكن أضحك . وتضحك مسز روبنسن وتقول لي : (( ألا تستطيع أن تنسى عقلك أبداً ؟ ويوم حكموا عليَّ في الأولد بيلي بالسجن سبع سنوات ، لم أجد صدراً غير صدرها أسند رأسي إليه . ربتت على رأسي وقالت : (( لا تبك يا طفلي العزيز )) . لم يكن لهما أطفال . كان مستر روبنسن يحسن اللغة العربية ، ويعنى بالفكر الإسلامي والعمارة الإسلامية ، فزرت معهما جوامع القاهرة ، ومتاحفها وآثارها . وكانت أحب مناطق القاهرة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
#####@@@@@#####
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصفحة .. 30 ..
إليهما ، منطقة الأزهر . كنا حين تكل أقدامنا من الطواف ، نلوذ بمقهى بجوار جامع الأزهر ، ونشرب عصير التمر هندي ، ويقرأ مستر روبنسن شعر المعري . كنت وقتها مشغولاً بنفسي ، فلم أحفل بالحب الذي أسبغاه علي . كانت مسز روبنسن ممتلئة الجسم ، برونزية اللون ، منسجمة مع القاهرة كأنها صورة منتقاة بذوق ، لتناسب لون الجدران في غرفة . وكنت أنظر إلى شعر إبطيها وأحسن بالذعر .. لعلها كانت تعلم أنني أشتهيها ، لكنها كانت عذبة ، أعذب امرأة عرفتها . تضحك بمرح ، وتحنو علي كما تحنو أم على إبنها .
وكانا على الرصيف حين أقلعت بي الباخرة من الإسكندرية . ورأيتها من بعيد وهي تلوح لي بمنديها ، ثم تجفف به الدمع من عينيها ، وإلى جوارها زوجها ، واضعاً يديه على خصره ، وأكاد أرى ، حتى من ذلك البعد ، صفاء عينيه الزرقاوين . إلا أنني لم أكن حزيناً ، كان كل همي أن أصل لندن ، جبلاً آخر أكبر من القاهرة ، لا أدري كم ليلة أمكث عنده . كنت في الخامسة عشرة ، يظنني من يراني في العشرين ، متماسكاً على نفسي ، كأنني قربة منفوخة . ورائي قصة نجاح فذ في المدرسة ، كل سلاحي هذه المدية الحادة في جمجمتي ، وفي صدري إحساس بارد جامد ، كأن جوف صدري مصبوب بالصخر ولما ابتلعت اللجة الساحل ، وهاج الموج تحت السفينة ، واستدار الأفق الأزرق حوالينا ، أحسست تواً ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
#####@@@@@#####
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصفحة .. 31 ..
بألفة غامرة للبحر . انني أعرف هذا العملاق الأخضر اللامنتهي ، كأنه يمور بين ضلوعي . واستمرأت طيلة الرحلة ذلك الإحساس في أني في لا مكان ، وحدي ، أمامي وخلفي الأبد أو لا شيء وصفحة البحر حين يهدأ سراب آخر ، دائم التبدل والتحول ، مثل القناع الذي على وجه أمي . هنا أيضاً صحراء مخضرة مزرقة ممتدة ، تناديني ، تناديني . وقادني النداء الغريب إلى ساحل دوفر ، وإلى لندن ، وإلى المأساة . لقد لسلكت ذلك الطريق بعد ذلك عائداً وكنت أسأل نفسي طوال الرحلة ، هي كان من الممكن تلافي شيء مما وقع ؟ وتر القوس مشدود ، ولا بد أن ينطلق السهم . وأنظر إلى اليسار واليمين ، إلى الخضرة الداكنة ، والقرى السكسونية القائمة على حوافي التلال . سقوف البيوت حمراء ، محدودية كظهور البقر ، وثمة غلالة شفافة من الضباب ، منشورة فوق الوديان . ما أكثر الماء هنا وما أرحب الخضرة . وكل تلك الألوان . ورائحة المكان غريبة ، كرائحة جسد مسز روبنسن . والأصوات لها وقت نظيف في أذني ، مثل حفيف أجنحة الطير . هذا عالم منظم ، بيوته وحقوله وأشجاره مرسومة وفقاً لخطة . الغدران كذلك ، لا تتعرض ، بل تسيل بين شطآن صناعية . ويقف القطار في المحطة ، بضع دقائق . يخرج الناس مسرعين ، ويدخلون مسرعين ، ثم يتحرك القطاع ، لا ضوضاء . وفكرت في حياتي في القاهرة . لم يحدث شيء ليس في الحسبان . زادت معلوماتي . وحدثت لي أحداث صغيرة ، وأحبتني زميلة لي ثم كرهتني ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
#####@@@@@#####
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصفحة .. 32 ..
وقالت لي : (( أنت ليس إنساناً . أنت آلة صماء )) . تسكعت في شوارع القاهرة ، وزرت الأوبرا ، ودخلت المسرح ، وقطعت النيل سابحاً ذات مرة . لم يحدث شيء إطلاقاً ، سوى أن القرية زادت انتفاخاً ، وتوتر وتر القوس . سينطلق السهم نحو آفاق أخرى مجهولة . وانظر إلى دخان القطار ، يتلاشى ، حيث تهب به الريح ، في غلالة الضباب المنتشرة في الوديان . وأخذتني سنة من النوم . وحلمت أنني أصلي وحدي في جامعة القلعة . كان المسجد مضاء بآلاف الشمعدانات ، والرخام الأحمر يتوهج ، وأنا وحدي أصلي . واستيقظت وفي أنفي رائحة البخور ، فإذا القطار يقترب من لندن . القاهرة مدينة ضاحكة ، وكذلك مسز روبنسن . كانت تريدني أن أناديها باسمها الأول ، اليزابيث ، لكنني كنت أناديها باسم زوجها . تعلمت منها حسب موسيقى باخ ، وشعر كيتس ، وسمعت عن مارك توين لأول مرة منها . لكنني لم أكن استمتع بشيء . وتضحك مسز روبنسن وتقول لي : (( ألا تستطيع أن تنسى عقلك أبداً ؟ )) . هل كان من الممكن تلافي شيء مما حدث ؟ كنت عائداً حينذاك تذكرت ما قاله لي القسيس ، وأنا في طريقي إلى القاهرة : (( كلنا يا بني نسافر وحدنا في نهاية الأمر )) . كانت يده تتحسس الصليب على صدره . وأضاءت وجهه ابتسامة كبيرة وأردف : (( انك تتحدث اللغة الإنكليزية بطلاقة مذهلة )) . اللغة التي أسمعها الآن ليست كاللغة التي تعلمتها في المدرسة . هذه أصوات حية ، لها جرس آخر .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
#####@@@@@#####
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصفحة .. 33 ..
كان عقلي كأنه مدية حادة . لكن اللغة ليست لغتي . تعلمت فصاحتها بالممارسة . وحملني القطار إلى محطة فكتوريا ، وإلى عالم جين مورس .
كل شيء حدث قبل لقائي إياها ، كان إرهاصاً . وكل شيء فعلته بعد أن قتلتها كان اعتذاراً ، لا لقتها ، بل لأكذوبة حياتي . كنت في الخامسة والعشرين حين لقيتها ، وفي حفل في تشلسي . الباب ، وممر طويل يؤدي إلى القاعة . فتحت الباب ، وتريثت ، وبدت لعيني تحت ضوء المصباح الباهت كأنها سراب لمع في صحراء . كنت مخموراً ، كأسي بقي ثلثها ، وحولي فتاتان ، أتفحش معهما ، وتضحكان . وجاءت تسعى نحونا بخطوات واسعة ، تضع ثقل جسمها على قدمها اليمنى ، فيميل كفلها إلى اليسار . وكانت تنظر إلي وهي قادمة . وقفت قبالتي ونظرت إلي بصلف وبرود .. وشيء آخر . وفتحت فمي لأتكلم ، لكنها ذهبت . وقلت لصاحبتي (( من هذه الأنثى ؟ )) .
كانت لندن خارجة من الحرب ومن وطأة العهد الفكتوري . عرفت حانات تشلسي ، وأندية هامبستد ، ومنتديات بلومزبري ، أقرأ الشعر ، وأتحدث في الدين والفلسفة ، وأنقد الرسم ، وأقول كلاماً عن روحانيات الشرق . أفعل كل شيء حتى أدخل المرأة في فراشي ، ثم أسير إلى صيد آخر . لم يكن في نفسي قطرة من المرح ، كما قالت مسز روبنسن . جلبت ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
#####@@@@@#####
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصفحة .. 34 ..
النساء إلى فراشي من بين فتيات جيش الخلاص ، وجمعيات الكويكرز ، ومجتمعات الفابيانيين . حين يجتمع حزب الأحرار أو العمال أو المحافظين أو الشيوعيين ، أسرج بعيري وأذهب . وفي المرة الثانية ، قالت لي جين مورس : (( أنت بشع . لم أر في حياتي وجهاً بشعاً كوجهك )) . وفتحت فمي لأتكلم لكنها ذهبت . وحلفت في تلك اللحظة ، وأنا سكران أنني سأتقاضاها الثمن في يوم من الأيام . وصحوت وآن همند إلى جواري في الفراش . أي شيء جذب آن همند إليَّ ؟ أبوها ضابط في سلاح المهندسين ، وأمها من العوائل الثرية في لفربول كانت صيداً سهلاً ، لقيتها وهي دون العشرين ، تدرس اللغات الشرقية في أكسفورد . كانت حية ، وجهها ذكي مرح وعيناها تبرقان بحب الإستطلاع . رأتني فرأت شفقاً داكناً كفجر كاذب . كانت عكسي تحن إلى مناخات استوائية ، وشموس قاسية ، وآفاق أرجوانية . كنت في عينها رمزاً لكل هذا الحنين . وأنا جنوب يحن إلى الشمال والصقيع . آن همند قضت طفولتها في مدرسة راهبات . عمتها زوجة نائب في البرلمان . حولتها في فراشي إلى عاهرة . غرفة نومي مقبرة تطل على حديقة ، ستائرها وردية منتقاة بعناية ، وسجاد سندسي دافئ والسرير رحب مخداته من ريش النعام . وأضواء كهربائية صغيرة ، حمراء ، وزرقاء ، وبنفسجية ، موضوعة في زوايا معينة . وعلى الجدران مرايا كبيرة ، حتى إذا ضاجعت امرأة ، بدا كأنني أضاجع حريماً كاملاً في آن واحد . تعبق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
#####@@@@@#####
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصفحة .. 35 ..
في الغرفة رائحة الصندل المحروق والند ، وفي الحمام عطور شرقية نفاذة ، وعقاقير كيماوية ، ودهون ، ومساحيق ، وحبوب . غرفة نومي كانت مثل غرفة عمليات في مستشفى . ثمة بركة ساكنة في أعماق كل امرأة . كنت أعرف كيف أحركها . وذات يوم وجدوها ميتة انتحاراً بالغاز ووجدوا ورقة صغيرة باسمي . ليس فيها سوى هذه العبارة : مستر سعيد . لعنة الله عليك )) . كان عقلي كأنه مدية حادة . وحملني القطار إلى محطة فكتوريا . وإلى عالم جين مورس ، في قاعة المحكمة الكبرى في لندن ، جلست أسابيع أستمع إلى المحامين يتحدثون عني ن كأنهم يتحدثون عن شخص لا يهمني أمره . كان المدعي العمومي سير آرثر هغتز عقل مريع ، أعرفه تمام المعرفة ، علمني القانون في أكسفورد ، ورأيته من قبل ، في هذه المحكمة نفسها وفي هذه القاعة ، يعتصر المتهمين في قفص الإتهام اعتصاراً . نادراً ما كان يفلت متهم من يده . ورأيت متهمين يبكون ويغمى عليهم ، بعد أن يفرغ من استجوابهم . لكنه هذه المرة كان يصارع جثة .
(( هل تسببت في انتحار آن همند ؟ ))
(( لا أدري ))
(( وشيلا غرينود ؟ ))
(( لا أدري ))
(( وإيزابيلا سيمور ؟ ))
(( لا أدري ))
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
#####@@@@@#####
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصفحة .. 36 ..
(( هل قتلت جين مورس ؟ ))
(( نعم ))
(( قتلتها عمداً ؟ ))
(( نعم ))
كان صوته كأنما يصلني من عالم آخر . ومضى الرجل يرسم بحذق صورة مريعة لرجل ذئب ، تسبب في انتحار فتاتين ، وحطم امرأة متزوجة ، وقتل زوجته ، رجل أناني ، أنصبت حياته كلها على طلب اللذة . ومرة خطر لي في غيبوبتي ، وأنا جالس هناك أستمع إلى أستاذي ، برفسور ماكسول فستر كين ، يحاول أن يخلصني من المشنقة ، أن أقف وأصرخ في المحكمة : (( هذا المصطفى سعيد لا وجود له . انه وهم ، أكذوبة . وأنني أطلب منكم أن تحكموا بقتل الأكذوبة )) . لكنني كنت هامداً مثل كومة رماد . ومضى برفسور ماكسول فستر كين يرسم صورة لعقل عبقري دفعته الظروف إلى القتل . في لحظة غيرة وجنون . روى لهم كيف أنني عينت محاضراً للإقتصاد في جامعة لندن ، وأنا في الرابعة والعشرين . قال لهم أن (( آن همند )) و (( شيلا غرينود )) كانتا فتاتين تبحثان عن الموت بكل سبيل ، وأنهما كانتا ستنتحران سواء قابلتا مصطفى سعيد أو لم تقابلاه . (( مصطفى سعيد يا حضرات المحلفين إنسان نبيل ، استوعب عقله حضارة الغرب ، لكنها حطمت قلبه . هاتان الفتاتان لم يقتلهما مصطفى سعيد ولكن قتلهما جرثوم مرض ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
#####@@@@@#####
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصفحة .. 37 ..
عضال أصابهما منذ ألف عام )) . وخطر لي أن أقف وأقول لهم : (( هذا زور وتلفيق . قتلتها أنا . أنا صحراء الظمأ . أنا لست عطيلاً . أنا أكذوبة . لماذا لا تحكمون بشنقي فتقتلون الأكذوبة ! )) لكن برفسور فستر كين حوَّل المحاكمة إلى صراح بين عالمين ، كنت أنا إحدى ضحاياه . وحملني القطار إلى محطة فكتوريا ، وإلى عالم جين مورس .
لبثت أطاردها ثلاثة أعوام . كل يوم يزداد وتر القوس توتراً ، قربي مملوءة هواء ن وقوافلي ظمأى ، والسراب يلمع أمام في متاهة الشوق ، وقد تحدد مرمى السهم ، ولا مفر من وقوع المأساة . وذات يوم قالت لي : (( أنت ثور همجي لا يكل من الطراد . إنني تعبت من مطاردتك لي ، ومن جريي أمامك . تزوجني )) . وتزوجتها . غرفة نومي صارت ساحة حرب . فراشي كان قطعة من الجحيم . أمسكها فكأنني أمسك سحاباً ، كأنني أضاجع شهاباً ، كأنني أمتطي صهوة نشيد عسكري بروسي . وتفتأ تلك الإبتسامة المريرة على فمها . أقضي الليل ساهراً ، أخوض المعرفة بالقوس والسيف والرمح والنشاب ، وفي الصباح أرى الإبتسامة ما فتئت على حالها ، فاعلم أنني خسرت الحرب مرى أخرى . كأنني شهريار رقيق ، تشتريه في السوق بدينار ن صادف شهرزاد متسولة في أنقاض مدينة قتلها الطاعون . كنت أعيش مع نظريات كينز وتوني بالنهار ، وبالليل أواصل الحرب بالقوس والسيف والرمح والنشاب . رأيت الجنود يعودون ، يملؤهم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
#####@@@@@#####
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصفحة .. 38 ..
الذعر ، من حرب الخنادق والقمل والوباء . رأيتهم يزرعون بذور الحرب القادمة في معاهدة فرساي ن ورأيت لويد جورج يضع أسس دولة الرفاهية العامة . وانقلبت المدينة إلى امرأة عجيبة ، لها رموز ونداءات غامضة ن ضربت إليها أكباد الإبل ، وكاد يقتلني في طلابها الشوق ، غرفة نومي ينبوع حزن ، جرثوم مرض فتاك . العدوى أصابتهن منذ ألف عام ، لكنني هيجت كوامن الداء حتى استفحل وقتل . وكان المغنون يرددون أهازيج الحب الحقيقي والمرح في مسارح لستر سكوير ، فلم يخفق لها قلبي . من كان يظن أن شيلا غرينود تقدم على الإنتحار ؟ خادمة في مطعم في سوهر . بسيطة حلوة المبسم ، حلوة الحديث . أهلها قرويون من ضواحي هل . أغريتها بالهدايا والكلام المعسول ، والنظرة التي ترى الشيء فلا تخطئه . جذبها عالمي الجديد عليها . دوختها رائحة الصندق المحروق والند ، ووقفت وقتاً تضحك لخيالها في المرآة ، وتعبث بعقد العاج الذي وضعته كأنشوطة حول جيدها الجميل . دخلت غرفة نومي بتولاً بكراً ، وخرجت منها تحمل جرثوم المرض في دمها . ماتت دون أن تنبس ببنت شفة . ذخيرتي من الأمثال لا تنفد . البس لكل حالة لبوسها ، شنى يعرف متى يلاقي طبقه .
(( أليس صحيحاً أنك في الفترة ما بين أكتوبر 1922 وفبراير 1923 ، في هذه الفترة وحدها على سبيل المثال ، كنت تعيش مع خمس نساء في آن واحد ؟ )) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
#####@@@@@#####
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصفحة .. 39 ..
(( بلى )) .
(( وأنك كنت توهم كلاً منهن بالزواج ؟ ))
(( بلى )) .
(( إنك كنت حسن ، وتشارلز ، وأمين ، ومصطفى ، ورتشارد ؟ ))
(( بلى )) .
(( ومع ذلك كنت تكتب وتحاضر عن الإقتصاد المبني على الحب لا على الأرقام ؟ أليس صحيحاً أنك أقمت شهرتك بدعوتك الإنسانية في الإقتصاد ؟ ))
(( بلى )) .
ثلاثون عاماً . كان شجر الصفصاف يبيض ويخضر ويصفر في الحدائق ، وطير الوقوق يغني للربيع كل عام . ثلاثون عاماً وقاعة البرت تغص كل ليلة بعشاق بيتهوفن وباخ ن والمطابع تخرج آلاف الكتب في الفن والفكر . مسرحيات برنارد شو تمثل في الرويال كورت والهيمار كت . كانت ايدث ستول تغرد بالشعر ، ومسرح البرنس اف ويلز يفيض بالشباب والألق . البحر في مده وجزره في بورتمث وبرايتن ، ومنطقة البحيرات تزدهي عاماً بعد عام . الجزيرة مثل لحن عذب ، سعيد حزين ، في تحول سرابي مع تحول الفصول . ثلاثون عاما ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
#####@@@@@#####
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصفحة .. 40 ..
وأنا جزء من كل هذا ، أعيش فيه ، ولا أحس جماله الحقيقي ، ولا يعنيني منه غلا ما يملاً فراشي كل ليلة .
نعم ، في الصيف . قالوا أن صيفاً مثله لم يأتهم منذ مائة عام . وخرجت من داري يوم سبت أشمشم الهواء ، وأحس بأنني مقبل على صيد عظيم . وصلت ركن الخطباء في حديقة هايد بارك . كان غاصاً بالخلق . وقفت عن بعد أستمع إلى خطيب من جزر الهند الغربية يتحدث عن مشكلة الملونين . استقرت عيني فجأة على امرأة تشرئب بعنقها لرؤية الخطيب ، فيرتفع ثوبها إلى ما فوق الركبتين ، مظهراً ساقين ملتفتين من البرونز . نعم هذه فريستي . وسرت إليها ، كالقارب يسير إلى الشلال . ووقفت وراءها ، والتصقت حتى أحسست بحرارتها تسري إلي . وشممت رائحة جسدها ، تلك الرائحة التي استقبلتني بها مسز روبنسون على رصيف محطة القاهرة واقتربت منها حتى أحسست بي ، فالتفتت إلي فجأة ، فابتسمت في وجهها ابتسامة لم أكن أعلم مصيرها ، لكنني عزمت على ألا تضيع هباء . وضحكت أيضاً ، حتى لا تنقلب الدهشة في وجهها إلى عداء فابتسمت . ووقفت إلى جانبها نحواً من ربع الساعة ، أضحك حين يضحكها الخطيب ، وأضحك بصوت مرتفع لكي تسري فيها عدوى الضحك ، حتى جاءت لحظة ن أحسست فيها أنني وهي صرنا كفرس ومهرة ، يركضان في تناسق ، جنباً إلى جنب . وهنا خرج الصوت من حلقي ، كأنه ليس صوتي : (( ما رأيك في شراب ،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
#####@@@@@#####
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصفحة .. 41 ..
بعيداً عن هذا الزحام والحر ؟ )) أدارت رأسها بدهشة ، فابتسمت هذه المرة ابتسامة عريضة بريئة ، حتى أحول الدهشة إلى حب استطلاع على الأقل . وفي أثناء ذلك تفرست في وجهها ، فوجدت كل سمة من سماته يزيدني إقناعاً بأن هذه فريستي . كنت أعلم ، بطبيعة المقامر ، إن تلك اللحظة حاسمة . كل شيء في هذه اللحظة محتمل . وتحولت ابتسامتي إلى سرور كاد يفلت زمامه من يدي حين قالت : (( نعم . ولم لا ؟ )) وسرنا معاً ، أحس بها إلى جانبي وهجاً من البرونز تحت شمس يوليو ، أحس بها مدينة من الأسرار والنعيم . وسرني أنها تضحك بسهولة . هذه السيدة ، نوعها كثير في أوروبا نساء لا يعرفن الخوف ن يقبلن على الحياة بمرح وحب استطلاع . وأنا صحراء الظمأ ، متاهة الرغائب الجنونية . وسألتني ونحن نشرب الشاي عن بلدي . رويت لها حكايات ملفقة عن صحاري ذهبية الرمال ، وأدغال تتصايح فيها حيوانات لا وجود لها . قلت لها أن شوارع عاصمة بلادي تعج بالأفيال والأسود ، وتزحف عليها التماسيح عند القيلولة . وكانت تستمع إلى بين مصدقة ومكذبة . تضحك ن وتغمض عينيها ، وتحمر وجنتاها . وأحياناً تصغي إلي في صمت ، وفي عينيها عطف مسيحي . وجاءت لحظة أحسست فيها أنني انقلبت في نظرها مخلوقاً بدائياً عارياً ، يمسك بيده رمحاً ن وبالأخرى نشاباً ، يصيد الفيلة والأسود في الأدغال . هذا حسن . لقد تحول حسب الاستطلاع إلى مرح ، وتحول ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
#####@@@@@#####
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ونواصل ...
ودحيدوب
أحمد حيدوب
أحد مؤسسي المنتدى
عدد المساهمات: 1396
تاريخ التسجيل: 06/04/2008
العمر: 46
الموقع: مكة المكرمة ـ السعودية
http://abudeleig.montadalhilal.comالرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
رد: نص كامل مكتوب لرواية موسم الهجرة إلى الشمال ـ الطيب صالح
مُساهمة من طرف أحمد حيدوب في الأحد 18 أبريل 2010 - 9:32
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
#####@@@@@#####
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصفحة .. 42 ..
المرح إلى عطف ، وحين أحرك البركة الساكنة في الأعماق ، سيستحيل العطف إلى رغبة أعزف على أوتارها المشدودة كما يحلو لي . وسألتني : (( ما جنسك ؟ هل أنت أفريقي أم آسيوي ؟ )) .
قلت لها : (( أنا مثل عطيل . عربي أفريقي )) . نظرت إلى وجهي وقالت : (( نعم . أنفك مثل أنوف العرب في الصور . لكن شعرك ليس فاحماً ناعماً مثل شعر العرب )) .
(( نعم . هذا أنا . وجهي عربي كصحراء الربع الخالي ، ورأسي أفريقي يمور بطفولة شريرة )) .
ضحكت وقالت : (( أنت تصور الأشياء بشكل غريب )) . وقادنا الحديث إلى أهلي ، فقلت لها ، غير كاذب هذه المرة ، أنني يتيم ولي لي أهل . ثم عدت إلى الكذب ، فوصفت لها وصفاً مهولاً كيف فقدت والدي ، حتى رأيت الدمع يطفر إلى عينيها . قلت لها إنني كنت في السادسة من عمري ، حين غرق والداي مع ثلاثين آخرين في مركب كان يعبر بهم النيل من شاطئ إلى شاطئ . وهنا حدث شيء كان أفضل من الرثاء . الرثاء في مثل هذه الأمور عاطفة غير مضمونة العواقب . لمعت عيناها ، وصاحت في نشوة :
(( نايل ؟ ))
(( نعم النيل )) .
(( أنتم إذاً تسكنون على ضفاف النيل ؟ )) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
#####@@@@@#####
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصفحة .. 43 ..
(( أجل ، بيتنا على ضفة النيل تماماً بحيث أنني كنت ، إذا استيقظت على فراشي ليلاً ، أخرج يدي من النافذة وأداعب ماء النيل حتى يغلبني النوم )) .
الطائر يا مستر مصطفى قد وقع في الشرك . النيل ، ذلك الإله الأفعى ، قد فاز بضحية جديدة . المدينة قد تحولت إلى امرأة . وما هو إلا يوم أو أسبوع ، حتى أضرب خيمتي ، وأغرس وتدي في قمة الجبل . أنت يا سيدتي قد لا تعلمين ، ولكنك ، مثل (( كارنارفون)) حين دخل قبر توت عنخ آمون ، قد أصابك داء فتاك لا تدرين من أين أتى ، سيودي بك إن عاجلاً وإن آجلاً . ذخيرتي من الأمثال لا تنفد . شنى يعرف متى يلاقي طبقه . وأحسست بزمام الحديث في يدي ، كفنان مهره مطواع ، أشد فتقف ، أهزه فتمشي ، أحركه فتتحرك وفقاً لإرادتي ، إن يميناً وإن شمالاً . وقلت لها :
(( مضت ساعتان دون أن أحس بهما . لم أحس بمثل هذه السعادة منذ زمن بعيد ، وبقي كثيراً أقوله لك وتقولينه لي . ما رأيك في أن نتمشى معاً ، ونواصل الحديث ؟ )) .
صمتت برهة ، فلم أقلق ، لأنني أحسست بذلك الدفء الشيطاني ، تحت الحجاب الحاجز حين أحسه أعلم أنني مسيطر على زمام الموقف . لا ، إنها لن تقول لي . وقالت : (( هذا لقاء عجيب . رجل غريب لا أعرفه يدعوني . هذا لا يجوز ،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
#####@@@@@#####
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصفحة .. 44 ..
لكن .. )) وصمتت ثم قالت : (( نعم . لم لا ؟ هيئتك لا تدل على أنك من آكل لحوم البشر )) .
قلت لها ، وموجة الفرح تتحرك في ، جذور قلبي : (( ستجدين أنني تمساح عجوز سقطت أسنانه . لن أقوى على أكلك حتى لو أردت )) . قدرت أنني أصغرها بخمسة عشر عاماً على الأقل ، امرأة في حدود الأربعين ، مهما حدثت لها من التجارب فإن الزمن قد عامل جسدها بحنو . التجاعيد الدقيقة على جبهتها وعلى أركان فمها لا تقول لك أنها شاخت ، بل تقول أنها نضجت .
حينئذ فقط سألتها عن إسمها فقالت : (( إيزابيلا سيمور )) . رددته مرتين ، وأنا أملأ به فمي ، كأنني آكل ثمرة كمثرى .
(( وأنت ما إسمك ؟ )) .
(( أنا .. أمين . أمين حسن )) .
(( سأسميك حسن )) .
ومع الشواء والنبيذ ، انفرجت أساريرها ، وتدفق حب تحس به نحو العالم بأسره ، علي أنا . وأنا لا يعنيني حبها للعالم . ولا سحابة الحزن التي تعبر وجهها من آن لآن ، بقدر ما تعنيني حمرة لسانها حين تضحك ، واكتناز شفتيها ، والأسرار الكامنة في قاع فمها . وتخيلتها عارية ، وأفحشت التخيل وهي تقول لي : (( الحياة مليئة بالألم . لكن يجب علينا أن نتفاءل ، ونواجه الحياة بشجاعة )) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
#####@@@@@#####
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصفحة .. 45 ..
نعم أنا أعلم الآن أن الحكمة القريبة المنال ، تخرج من أفواه البسطاء ، هي كل أملنا في الخلاص . الشجرة تنمو ببساطة ، وجدك عاش وسيموت ببساطة . ذلك هو السر . صدقت يا سيدتي ، الشجاعة والتفاؤل . ولكن إلى أن يرث المستضعفون الأرض ، وتسرح الجيوش ، ويرعى الحمل آمناً بجوار الذئب ، ويلعب الصبي كرة الماء مع التمساح في النهر ، إلى أن يأتي زمان السعادة والحب هذا ، سأظل أنا أعبر عن نفسي بهذه الطريقة الملتوية . وحين أصل لاهثاً قمة الجبل ، وأغرس البيرق ، ثم ألتقط أنفاسي وأستجم ـ تلك يا سيدتي نشوة أعظم عندي من الحب ، ومن السعادة . ولهذا ، فأنا لا أنوي بك شراً ، إلا بقدر ما يكون البحر شريراً ، حين تتحطم السفن على صخوره ، وبقدر ما تكون الصاعقة شريرة حين تشق الشجرة نصفين . وتركزت الفكرة الأخيرة في رأسي ، بشعيرات على ذراعها الأيمن ، قريباً من الرسغ ، ولاحظت أن شعر ذراعيها أكثف مما هو عند النساء عادة وقادني هذا إلى شعر آخر . لابد أنه ناعم غزير مثل نبات السعدة على حافة الجدول . وكأنما سرت الفكرة من ذهني إليها ، فاعتدلت في جلستها وقالت : (( ما بالك تبدو حزيناً ؟ )) . (( هل أبدو حزيناً ؟ أنا على العكس ، سعيد جداً )) . وعادت النظرة الحانية إلى عينيها ، ومدت يدها فأمسكت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
#####@@@@@#####
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصفحة .. 46 ..
يدي وقالت . (( هل تدري أن أمي أسبانية ؟ )) .
(( هذا إذن يفسر كل شيء . يفسر لقاءنا صدفة ، وتفاهمنا تلقائياً ، كأننا تعارفنا منذ قرون . لا بد أن جدي كان جندياً في جيش طارق ابن زياد . ولا بد أنه قابل جدتك ، وهي تجني العنب في بستان في اشبيلية . ولا بد أنه أحبها من أول نظرة ، وهي أيضاً أحبته . وعاش معها فترة ثم تركها وذهب إلى أفريقيا . وهناك تزوج . وخرجت أنا من سلالته في أفريقيا . وأنت جئت من سلالته في أسبانيا )) .
هذا الكلام ، والضوء الخافت أيضاً والنبيذ ، أسعدها ، فقرقرت لهاتها بالضحك وقالت : (( يا لك من شيطان )) .
وتخيلت برهة . لقاء الجنود العرب لأسبانيا . مثلي في هذه اللحظة ، أجلس قبالة ايزابيلا سيمور ، ظمأ جنوني تبدد في شعاب التاريخ في الشمال . إنما أنا لا أطلب المجد ، فمثلي لا يطلب المجد .
وأدرت مفتاح الباب بعد شهر من حمى الرغبة ، وهي إلى جانبي ، أندلس خصب ، وقدتها بعد ذلك عبر الممر القصير إلى غرفة النوم ، ولفحتها رائحة الصندل المحروق والند ، فملأت رئتيها بعبير لم تكن تعلم أنه عبير قاتل . كنت تلك الأيام ، حين تصبح القمة مني على مد الذراع ، يعتريني هدوء تراجيدي . كل الحمى والوجيب في القلب ، والتوتر في العصب ،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
#####@@@@@#####
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصفحة .. 47 ..
يتحول إلى هدوء جراح وهو يشق بطن المريض . وكنت أعلم أن الطريق القصير الذي سرناه معاً إلى غرفة النوم ، كان بالنسبة لها طريقاً مضيئاً ، يعبق بعبير التسامح والمحبة ، وكان بالنسبة لي الخطوة الأخيرة ، قبل الوصول إلى قمة الأنانية . وتريثت عند حافة الفراش ، كأنني الخص تلك اللحظة في ذهني ، وألقيت نظرة موضوعية على الستائر الوردية والمراءات الكبيرة ، والأضواء الحذرة في أركان الحجرة ، ثم على تمثال البرونز المكتمل التكوين أمامي . ونحن في قمة المأساة صرخت بصوت ضعيف : (( لا . لا )) . هذا لا يجديك نفعاً الآن . لقد ضاعت اللحظة الخطيرة حين كان بوسعك الامتناع عن اتخاذ الخطوة الأولى . إنني أخذتك على غرة ، وكان بوسعك حينئذ أن تقولي (( لا )) . أما الآن فقد جرفك تيار الأحداث ، كما يجرف كل إنسان ، ولم يعد في مقدورك فعل شيء . لو أن كل إنسان عرف متى يمتنع عن إتخاذ الخطوة الأولى ، لتغيرت أشياء كثيرة . هل الشمس شريرة حين تحيل قلوب ملايين البشر إلى صحاري تتعارك رمالها ويجف فيها حلق النعدليب ؟ وتريثت وأنا أمسح براحة يدي ظاهر عنقها ، وأقبلها في منابع الإحساس . ومع كل لمسة ، مع كل قبلة أحس أن عضلة في جسدها ترتخي ، وتألق وجهها ولمعت عيناها ببريق خاطف ، واستطالت نظراتها كأنها تنظر إلي فتراني رمزاً ليس حقيقة . وسمعتها تقول لي بصوت متضرع مستسلم : (( أحبك )) ، فجاوب صوتها هتاف ضعيف في أعماقي ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
#####@@@@@#####
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصفحة .. 48..
وعيي يدعوني أن أقف . لكن القمة صارت على بعد خطوة ، وبعد ذلك التقط أنفاسي وأستجم . ونحن في قمة الألم عبرت برأسي سحائب ذكريات بعيدة قديمة كبخار يصعد من بحيرة مالحة وسط الصحراء . وانفجرت هي ببكاء ممض محرق ، واستسلمت أنا إلى نوم متوتر محموم .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
#####@@@@@#####
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصفحة .. 49 ..
كانت ليلة قائظة من ليالي شهر يوليو ، وكان النيل قد فاض ذلك العام أحد فيضاناته تلك ، هي تحدث مرة كل عشرين أو ثلاثين سنة ، وتصبح أساطير يحدث بها الآباء ابناءهم . وغمر الماء أغلب الأرض الممتدة بين الشاطئ وطرف الصحراء حيث تقوم البيوت ، وبقيت الحقول كجزيرة وسط الماء . وكان الرجال يتنقلون بين البيوت والحقول في قوارب صغيرة ، أو يقطعون المسافة سباحة ، وكان مصطفى سعيد حسب علمي يجيد السباحة . حدثني ابي ، فقد كنت في الخرطوم وقتها ، أنهم سمعوا بعد صلاة العشاء صراخ نسوة في الحي ، فهرعوا إلى مصدر الصوت فإذا الصراخ في دار مصطفى سعيد . كان من عادته أن يعود من حقله مع مغيب الشمس ، ولكن زوجته انتظرت دون جدوى . وذهبت تسأل عنه هنا وهناك ، فاخبروها أنهم رأوه في حقله والبعض ظن أنه عاد إلى بيته مع بقية الرجال . وانكبت البلد كلها على الشاطئ . الرجال في أيديهم المصابيح وبعضهم في القوارب . وظلوا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
#####@@@@@#####
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصفحة .. 50 ..
يبحثون الليل كله دون جدوى . وأرسلوا إشارات تليفونية إلى مركز البوليس على إمتداد النيل حتى كرمه . ولكن الجثث التي حملها الموج إلى الشاطئ ذلك الأسبوع لم تكن بينها جثة مصطفى سعيد . وفي النهاية أخلدوا إلى الرأي أنه لا بد قد مات غرقاً ، وأن جثمانه قد استقر في بطون التماسيح التي يغص بها الماء في تلك المنطقة .
أما أنا ، فإنه يخامرني ذلك الإحساس الذي اعتراني ليلة سمعته ، فجأة وعلى غير استعداد مني ، يقرأ شعراً إنكليزياً ، وهو ممسك كأس الخمر بيده ، دافناً قامته في الكرسي ، ممدداً رجليه ، ضوء المصباح ينعكس على وجهه ، وعيناه سارحتان كما خير لي في آفاق داخل نفسه . والظلام حولنا في الخارج كأن قوى شيطانية تتضافر على خنق ضوء المصباح . أحياناً تخطر لي فجأة تلك الفكرة المزعجة أن مصطفى سعيد لم يحدث إطلاقاً ، وأنه فعلاً أكذوبة ، أو طيف أو حلم ، أو كابوس ، ألم بأهل القرية تلك ، ذات ليلة داكنة خانقة ، ولما فتحوا أعينهم مع ضوء الشمس لم يروه .
كان الليل قد بقي أقله حين قمت من عند مصطفى سعيد ، وخرجت وأنا أشعر بالتعب ـ ربما من طول الجلوس ـ ومع ذلك لم أكن أرغب في النوم ، فمضيت أتسكع في شوارع البلد الضيقة المتعرجة ، تلامس وجهي نسمات الليل الباردة التي تهب من الشمال محملة بالندى ، محملة برائحة زهور الطلح وروث البهائم ، ورائحة الأرض التي رويت لتوها بالماء بعد ظمأ أيام ، رائحة